









قال: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله ص: إن له ابنًا تاجرًا كيسًا ذا مال؛ وكأنكم به قد جاءكم في فداء أبيه! قال: فلما قالت قريش: لا تعجلوا في فداء أسرائكم لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله ص عنى -: صدقتم، لا تعجلوا بفداء أسرائكم.
ثم انسل من الليل، فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، ثم انطلق به، ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص ابن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بنى سالم بن عوف، وكان سهيل بن عمرو أعلم من شفته السفلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش بن علقمة، أخو بنى عامر بن لؤي، أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله ص: يا رسول الله انتزع ثنيتي سهيل بن عمرو. السفليين يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا في موطنٍ أبدًا، فقال رسول الله ص: لا أمثل به فيمثل الله بي؛ وإن كنت نبيًا.
قال: وقد بلغني أن رسول الله ص قال لعمر في هذا الحديث: إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه؛ فلما قاولهم فيه مكرز، وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذي لنا. قال: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. قال: فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزًا مكانه عندهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أن رسول الله ص قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهى به إلى المدينة: يا عباس، افد نفسك وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم، أخا بنى الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال.
فقال: يا رسول الله، إني كنت مسلمًا؛ ولكن القوم استكرهوني، فقال: الله أعلم بإسلامك؛ إن يكن ما تذكر حقًا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك - وكان رسول الله ص قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب - فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: لا؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك، قال: فإنه ليس لي مال. قال: فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد. ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا!. قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها؛ وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابنى أخيه وحليفه.
حدثنا ابن حميد؛ قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب - وكان لابنه عقبة بن أبي معيط - أسيرًا في يدي رسول الله ص من أسارى بدر، فقيل لأبي سفيان: افد عمرًا، قال: أيجمع على دمي ومالي! قتلوا حنظلة وأفدي عمرًا! دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. قال: فبينا هو كذلك محبوسٌ عند رسول الله ص، خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بنى عمرو بن عوف، ثم أحد بنى معاوية معتمرًا، ومعه مرية له؛ وكان شيخًا كبيرًا مسلمًا في غنم له بالنقيع؛ فخرج من هنالك معتمرًا؛ ولا يخشى الذي صنع به؛ لم يظن أنه يحبس بمكة؛ إنما جاء معتمرًا؛ وقد عهد قريشًا لا تعترض لأحد حاجًا أو معتمرًا إلا بخير؛ فعدا عليه أبو سفيان بن حرب، فحبسه بمكة بابنه عمرو بن أبي سفيان، ثم قال أبو سفيان:
أرهط ابن أكالٍ أجيبوا دعاءه ** تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئامٌ أذلةٌ ** لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
قال: فمشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله ص؛ فأخبره خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكوا شيخهم؛ ففعل رسول الله ص، فبعثوا به إلى أبي سفيان، فخلى سبيل سعد.
قال: وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله ص، زوج ابنته زينب، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارةً، وكان لهالة بنت خويلد وكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رسول الله ص أن يزوجه؛ وكان رسول الله ص لا يخالفها؛ وذلك قبل أن ينزل عليه، فزوجه؛ فكانت تعده بمنزلة ولدها؛ فلما أكرم الله عز وجل رسوله بنبوته آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه وشهدن أن ما جاء به هو الحق؛ ودن بدينه؛ وثبت أبو العاص على شركه.
وكان رسول الله ص قد زوج عتبة بن أبي لهب إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم؛ فلما بادى قريشًا بأمر الله عز وجل وباعدوه، قالوا: إنكم قد فرغتم محمدًا من همه؛ فردوا عليه بناته، فاشغلوه بهن، فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع، فقالوا: فارق صاحبتك؛ ونحن نزوجك أي امرأة شئت من قريش، قال: لا ها الله إذًا؛ لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش؛ وكان رسول الله ص يثنى عليه في صهره خيرًا - فيما بلغني.
قال: ثم مشوا إلى الفاسق ابن الفاسق، عتبة بن أبي لهب، فقالوا له: طلق ابنه محمد ونحن نزوجك أي امراة من قريش شئت؛ فقال: إن زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ابنة سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن عدو الله دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهوانًا له؛ فخلف عليها عثمان بن عفان بعده؛ وكان رسول الله ص لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوبًا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله ص حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع؛ إلا أن رسول الله ص كان لا يقدر على أن يفرق بينهما؛ فأقامت معه على إسلامهم وهو على شركه؛ حتى هاجر رسول الله ص، فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص بن الربيع؛ فأصيب في الأسارى يوم بدر، وكان بالمدينة عند رسول الله ص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عائشة زوج النبي ص، قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم، بعث زينب بنت رسول الله ص في فداء أبي العاص ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها.
قالت: فلما رآها رسول الله ص رق لها رقةً شديدةً، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا! فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.
وكان رسول الله ص قد أخذ عليه - أو وعد رسول الله ص - أن يخلى سبيل زينب إليه، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه؛ ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله ص، فيعلم ما هو! إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله، بعث رسول الله ص زيد بن حارثه ورجلا من الأنصار مكانه، فقال: كونا ببطن يأجج؛ حتى تمر بكما زينب فتصحباها، حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما؛ وذلك بعد بدر بشهر أو شيعة. فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها؛ فخرجت تجهز.
فحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حدثت عن زينب أنها قالت: بينا أنا أتجهز بمكة للحوق بأبي، لقيتني هند بنت عتبة، فقالت: أي ابنة محمد؛ ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك! قالت: فقلت: ما أردت ذلك، قالت: أي ابنة عمي، لا تفعلي؛ إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك فلا تضطني منى؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال. قالت: ووالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خفتها، فأنكرت أن اكون أريد ذلك، وتجهزت.
فلما فرغت ابنة رسول الله ص من جهازها قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها بعيرًا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارًا يقود بها، وهي في هودج لها. وتحدث بذلك رجال قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ونافع بن عبد القيس، والفهري. فروعها هبار بالرمح وهي في هودجها - وكانت المرأة حاملًا؛ فيما يزعمون - فلما رجعت طرحت ذا بطنها، وبرك حموها، ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنوا مني رجلٌ إلا وضعت فيه سهمًا، فتكركر الناس عنه؛ وأتاه أبو سفيان في جلة قريش، فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك، فكف. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال: إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رءوس الرجال علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرج بابنته علانيةً من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا، ونكبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعفٌ ووهنٌ؛ لعمري ما لنا حاجة في حبسها عن أبيها، وما لنا في ذلك من ثؤرة؛ ولكن أرجع المرأة، فإذا هدأ الصوت، وتحدث الناس أنا قد رددناها؛ فسلها سرًا فألحقها بأبيها. ففعل حتى إذا هدأ الصوت خرج بها ليلا؛ حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله ص.
قال: فأقام أبو العاص بمكة، وأقامت زينب عند رسول الله ص بالمدينة، قد فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج تاجرًا إلى الشأم - وكان رجلا مأمونا بمال له، وأموال رجال من قريش أبضعوها معه - فلما فرغ من تجارته - وأقبل قافلًا؛ لقيته سرية لرسول الله ص، فأصابوا ما معه، وأعجزهم هربًا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل؛ حتى دخل على زينب بنت رسول الله ص، فاستجار بها، فأجارته في طلب ماله، فلما خرج رسول الله ص إلى الصبح - فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كما حدثني يزيد بن رومان - فكبر وكبر الناس معه، صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس، إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع. فلما سلم رسول الله ص من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت! قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم؛ إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله ص، فدخل على ابنته، فقال: أي بنية أكرمى مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله ص بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص، فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالًا، فإن تحسنوا تردوا عليه الذي له؛ فإنا نحب ذلك؛ وإن أبيتم فهو فئ الله الذي افاءه عليكم؛ فأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه! قل: فردوا عليه ماله حتى إن الرجل ليأتي بالحبل، ويأتي الرجل بالشنة والإداوة؛ حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ؛ حتى ردوا عليه ماله بأسره؛ لا يفقد منه شيئًا.










ثم احتمل إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه، ثم قال: يا معشر قريش؛ هل بقى لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا فجزاك الله خيرًا؛ فقد وجدناك وفيًا كريمًا، قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؛ والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أكل أموالكم؛ فلما أداها الله إليكم، وفرغت منها أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله ص.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس، قال: رد عليه رسول الله ص زينب بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئًا بعد ست سنين.
حدثنا ابن حميد، قال حدثنا سلمة بن الفضل، قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحجر - وكان عمير بن وهب شيطانًا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله ص وأصحابه، ويلقون منه عناء وهم بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر - فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: والله إن في العيش خير بعدهم، فقال عمير: صدقت والله! أما والله لولا دين على ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علةً؛ ابنى أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان بن أمية، فقال: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، لا يسعنى شيء ويعجز عنهم، قال عمير: فاكتم على شأني وشأنك: قال: أفعل.
قال: ثم إن عميرًا أمر بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين في المسجد يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله عز وجل به، وما أراهم في عدوهم؛ إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ بعيره على باب المسجد، متوشحًا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر! وهو الذي حرش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر. ثم دخل عمر على رسول الله ص، فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحًا سيفه، قال: فأدخله علي.
قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفة في عنقه، فلببه بها، وقال لرجال ممن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله ص فاجلسوا عنده، واحذروا هذا الخبيث عليه، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله ص.
فلما رآه رسول الله ص وعمر آخذ بحمالة سيفه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال: أنعموا صباحًا - وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله ص: وقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك بيا عمير؛ بالسلام تحية أهل الجنة، قال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث عهد بها. قال: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه. قال: فمال بال السيف في عنقك! قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت شيئًا! قال: اصدقني بالذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك، فقال: بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدًا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له. والله عز وجل حائلٌ بينى وبينك. فقال عمير: أشهد أنك رسول الله؛ قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي؛ وهذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وضفوان؛ فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله؛ فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق. ثم تشهد شهادة الحق؛ فقال رسول الله ص؛ فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه وعلموه القرآن، وأطلقوا له أسيره.
قال: ففعلوا، ثم قال: يا رسول الله: إني كنت جاهدًا في إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله؛ وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام؛ لعل الله أن يهديهم! وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم.
قال: فأذن له رسول الله ص، فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول لقريش: أبشروا بوقعةٍ تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان؛ حتى قدم راكبٌ فأخبره بإسلامه، فحلف ألا يكلمه أبدًا ولا ينفعه بنفع أبدًا. فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام، ويؤذى من خالفه أذىً شديدًا فأسلم على يديه أناس كثير.
فلما انقضى أمر بدر، أنزل الله عز وجل فيه من القرآن الأنفال بأسرها.
حدثنا أحمد بن منصور، قال: حدثنا عاصم بن علي، قال: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثنا أبو زميل، قال: حدثني عبد الله بن عباس؛ حدثني عمر بن الخطاب، قال: لما كان يوم بدر التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلًا، وأسر سبعون رجلًا، فلما كان يومئذ شاور رسول الله ص أبا بكر وعليًا وعمر، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذنا منهم قوة، وعسى الله أن يهديهم، فيكونوا لنا عضدًا. فقال رسول الله ص: ما ترى يا بن الخطاب؟ قال: قلت: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخ له فيضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار؛ هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم.
قال: فهوى رسول الله ص ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت أنا، فأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد قال عمر: غ*** إلى النبي ص وهو قاعدٌ وأبو بكر، وإذا هما يبكيان، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله ص: للذي عرض علي أصحابك من الفداء. لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة - وأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبيٍ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " إلى قوله: " فيما أخذتم عذابٌ عظيمٌ "؛ ثم أحل لهم الغنائم.
فلما كان من العام القابل في أحد عوقبوا بما صنعوا، قتل من أصحاب رسول الله ص سبعون، وأسر سبعون، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وفر أصحاب النبي ص، وصعدوا الجبل، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " أو لما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " إلى قوله: إن الله على كل شيء قديرٌ "، ونزلت هذه الآية الأخرى: " إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ والرسول يدعوكم في أخراكم " إلى قوله: " من بعد الغم أمنةً ".
حدثني سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر، وجيء بالأسرى، قال رسول الله ص: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، واستبقهم واستأنهم؛ لعل الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك، قدمهم فضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارًا. قال: فقال له العباس: قطعتك رحمك! قال: فسكت رسول الله ص فلم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله، فقال: إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن؛ وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة؛ وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيمٌ "، ومثلك يا أبا بكر، مثل عيسى، قال: " إن تعذبهم فهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا "، ومثلك كمثل موسى، قال: " ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ". ثم قال رسول الله ص: أنتم اليوم عالةٌ فلا يفلتن منهم أحدٌ إ لا بفداء أو ضرب عنق؛ قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء. فإنى سمعته يذكر الإسلام.
فسكت رسول الله ص، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع على الحجارة من السماء منى في ذلك اليوم؛ حتى قال رسول الله ص: " إلا سهيل بن بيضاء " قال: فأنزل الله عز وجل: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض.. " إلى آخر الآيات الثلاث.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: لما نزلت - يعني هذه الآية: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى "، قال رسول الله ص: لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال.










قال أبو جعفر: وكان جميع من شهد بدرًا من المهاجرين، ومن ضرب له رسول الله ص بسهمه وأجره ثلاثةً وثمانين رجلًا في قول ابن إسحاق.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه: وجميع من شهد من الأوس معه ومن ضرب له بسهمه واحدٌ وستون رجلًا. وجميع من شهد معه من الخزرج مائة وسبعون رجلًا في قول ابن إسحاق، وجميع من استشهد من المسلمين يومئذ أربعةً عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
وكان المشركون - فيما زعم الواقدي - تسعمائة وخمسين مقاتلًا؛ وكانت خيلهم مائة فرس.
ورد رسول الله ص يومئذ جماعة استصغرهم - فيما زعم الواقدي - فمنهم فيما زعم عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء ابن عازب، وزيد بن ثابت، وأسيد بن ظهير، وعمير بن أبي وقاص ثم أجاز عميرًا بعد أن رده فقتل يومئذ.
وكان رسول الله ص قد بعث قبل أن يخرج من المدينة طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، إلى طريق الشأم يتحسسان الأخبار عن العير، ثم رجعا إلى المدينة، فقدماها يوم وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله ص بتربان؛ وهو منحدرٌ من بدر يريد المدينة.
قال الواقدي: كان خروج رسول الله ص من المدينة في ثلثمائة رجل وخمسة، وكان المهاجرون أربعةً وسبعين رجلًا، وسائرهم من الأنصار، وضرب لثمانية بأجورهم وسهمانهم: ثلاثة من المهاجرين؛ أحدهم عثمان بن عفان كان تخلف على ابنة رسول الله ص حتى ماتت، وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد، كان بعثهما يتحسسان الخبر عن العير، وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بشير بن عبد المنذر؛ خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي بن العجلان؛ خلفه على العالية، والحارث بن حاطب؛ رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث ابن الصمة؛ كسر بالروحاء؛ وهو من بنى مالك بن النجار، وخوات بن جبير، كسر من بني عمرو بن عوف. قال: وكانت الإبل سبعين بعيرًا، والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد.
قال أبو جعفر: وروى عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، عن محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ورئى رسول الله ص في أثر المشركين يوم بدر مصلتًا السيف، يتلو هذه الآية: " سيهزم الجمع ويولون الدبر ".
قال: وفي غزوة بدر انتفل رسول الله ص سيفه ذا الفقار، وكان لمنبه بن الحجاج.
قال: وفيها غنم جمل أبي جهل؛ وكان مهريًا يغزو عليه ويضرب في لقاحه.
قال أبو جعفر: ثم أقام رسول الله ص بالمدينة، منصرفة من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها؛ على أن لا يعينوا عليه أحدًا؛ وأنه إن دهمه بها عدوٌ نصروه. فلما قتل رسول الله ص من قتل ببدر من مشركي قريش، أظهروا له الحسد والبغي، وقالوا: لم يلق محمدٌ من يحسن القتال؛ ولو لقينا لاقى عندنا قتالًا لا يشبهه قتال أحد؛ وأظهروا نقض العهد.
غزوة بني قينقاع
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان من أمر بني قينقاع، أن رسول الله ص جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال يا معشر اليهود، احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا؛ فإنكم قد عرفتم أني نبيٌ مرسل تجدون ذلك في كتابكم؛ وفي عهد الله إليكم. قالوا: يا محمد؛ إنك ترى أنا كقومك! لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة؛ إنا والله حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله ص، وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
فحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر: عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، أن غزوة رسول الله ص بني القينقاع كانت في شوال من السنة الثانية من الهجرة.
قال الزهري عن عروة: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليهما وسلم بهذه الآية: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء "، فلما فرغ جبريل عليه السلام من هذه الآية، قال رسول الله ص إني أخاف من بني قينقاع، قال عروة: فسار إليهم رسول الله ص بهذه الآية.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حاصرهم رسول الله ص خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد. ثم نزلوا على حكم رسول الله ص، فكتفوا وهو يريد قتلهم، فكلمة فيهم عبد الله بن أبي.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: فحاصرهم رسول الله ص حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - فأبطأ عليه النبي ص فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض النبي ص.
قال: فأدخل يده في جيب رسول الله ص، فقال رسول الله ص: أرسلني، وغضب رسول الله ص حتى رأوا في وجهه ظلالًا - يعني تلونًا - ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي. أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الأسود والأحمر؛ تحصدهم في غداة واحدة! وإني والله لا آمن وأخشى الدوائر. فقال رسول الله ص: هم لك.
قال أبو جعفر: وقال محمد بن عمر في حديثه عن محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، فقال النبي ص: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم! فأرسلوهم. ثم أمر بإجلائهم، وغنم الله عز وجل رسوله والمسلمين ما كان لهم من مال - ولم تكن لهم أرضون؛ إنما كانوا صاغةً - فأخذ رسول الله ص لهم سلاحًا كثيرًا وآلة صياغتهم؛ وكان الذي ولى إخراجهم من المدينة بذراريهم عبادة بن الصامت، فمضى بهم حتى بلغ بهم دباب؛ وهو يقول: الشرف الأبعد، الأقصى فالأقصى! وكان رسول الله ص استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر.
قال أبو جعفر: وفيها كان أول خمس خمسه رسول الله ص في الإسلام؛ فأخذ رسول الله ص صفيه والخمس وسهمه، وفض أربعة أخماس على أصحابه، فكان أول خمسٍ قبضه رسول الله ص. وكان لواء رسول الله ص يوم بني قنيقناع لواءً أبيض، مع حمزة بن عبد المطلب، ولم تكن يومئذ رايات. ثم انصرف رسول الله ص إلى المدينة، وحضرت الأضحى؛ فذكر أن رسول الله ص ضحى وأهل اليسر من أصحابه، يوم العاشر من ذي الحجة، وخرج بالناس إلى المصلى فصلى بهم، فذلك أول صلاة صلى رسول الله ص بالناس بالمدينة بالمصلى في عيد، وذبح فيه بالمصلى بيده شاتين - وقيل ذبح شاة.
قال الواقدي: حدثني محمد بن الفضل، من ولد رافع بن خديج، عن أبي مبشر، قال: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: لما رجعنا من بني قنينقاع ضحينا في ذي الحجة صبيحة عشر، وكان أول أضحى رآه المسلمون، وذبحنا في بني سلمة فعدت في بني سلمة سبع عشرة أضحية.
قال أبو جعفر، وأما ابن إسحاق فلم يوقت لغزوة رسول الله ص التي غزاها بني قنينقاع وقتًا، غير أنه قال: كان ذلك بين غزوة السويق وخروج النبي ص من المدينة يريد غزوة قريش؛ حتى بلغ بني سليم وبحران، معدنًا بالحجاز من ناحية الفرع.










وأما بعضهم، فإنه قال: كان بين غزوة رسول اللهبدرًا الأولى وغزوة بني قنينقاع ثلاث غزوات وسرية أسراها. وزعم أن النبي
إنما غزاهم لتسع ليال خلون من صفر من سنة ثلاث من الهجرة، وأن رسول الله
غزا بعد ما انصرف من بدر، وكان رجوعه إلى المدينة يوم الأربعاء لثماني ليالٍ بقين من رمضان، وأنه أقام بها بقية رمضان. ثم غزا قرقرة الكدر حين بلغه اجتماع بني سليم وغطفان؛ فخرج من المدينة يوم الجمعة بعد ما ارتفعت الشمس، غرة شوال من السنة الثانية من الهجرة إليها.
وأما ابن حميد، فحدثنا عن سلمة، عن ابن إسحاق، أنه قال: لما قدم رسول الله ص من بدر إلى المدينة، وكان فراغه من بدر في عقب شهر رمضان - أو في أول شوال - لم يقم بالمدينة إلا سبع ليال؛ حتى غزا بنفسه يريد بني سليم، حتى بلغ ماء من مياههم؛ يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة، وفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش.
وأما الواقدي، فزعم أن غزوة النبي ص الكدر كانت في المحرم من سنة ثلاث من الهجرة، وأن لواءه كان يحمله فيها علي بن أبي طالب؛ وأنه استخلف فيها ابن أم مكتوم المعيصي على المدينة.
وقال بعضهم: لما رجع النبي ص من غزوة الكدر إلى المدينة، وقد ساق النعم والرعاء ولم يلق كيدًا. وكان قدومه منها - فيما زعم - لعشر خلون من شوال، بعث غالب بن عبد الله الليثي يوم الأحد لعشر ليال مضين من شوال إلى بني سليم وغطفان في سرية، فقتلوا فيهم، وأخذوا النعم، وانصرفوا إلى المدينة بالغنيمة يوم السيت، لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر، وإن رسول الله ص أقام بالمدينة إلى ذي الحجة، وإن رسول الله ص غزا يوم الأحد لسبع ليال بقين من ذي الحجة غزوة السويق.
غزوة السويق
قال أبو جعفر: وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ص من غزوة الكدر إلى المدينة، أقام بها بقية شوال من سنة اثنين من الهجرة، وذا القعدة. ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة. قال: وولى تلك الحجة المشركون من تلك السنة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان ومن لا أتهم، عن عبيد الله ابن كعب بن مالك - وكان من أعلم الأنصار - قال: كان أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة، ورجع فل قريش إلى مكة من بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا. فخرج في مائتي راكب من قريش، ليبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدور قناة إلى جبل يقال له تبت، من المدينة على بريد أو نحوه. ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب، فضرب عليه، بابه فأبى أن يفتح له وخافه، فأبى فانصرف إلى سلام بن مشكم - وكان سيد النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم - فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه، وبطن له خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته، حتى جاء أصحابه، فبعث رجالًا من قريش إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها العريض، فحرقوا في أصوار، من نخل لها؛ ووجدوا رجلًا من الأنصار وحليفًا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين؛ ونذر بهم الناس، فخرج رسول الله ص في طلبهم، حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف راجعًا، وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث؛ يتخففون منه للنجاة. فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله ص: أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال: نعم.
وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجًا من مكة إلى المدينة أبياتًا من شعر يحرض قريشًا:
كروا على يثربٍ وجمعهم ** فإن ما جمعوا لكم نقل
إن يك يوم القليب كان لهم ** فإن ما بعده لكم دول
آليت لا أقرب النساء ولا ** يمس رأسي وجلدي الغسل
حتى تبيروا قبائل الأوس وال ** خزرج، إن الفؤاد مشتعل
فأجابه كعب بن مالك:
تلهف أم المسبحين على ** جيش ابن حربٍ بالحرة الفشل
إذ يطرحون الرجال من سئم الطير ** ترقى لقنة الجبل
جاءوا بجمعٍ لو قيس مبركه ** كا كان إلا كمفحص الدئل
عارٍ من النصر والثراء ومن ** أبطال أهل البطحاء والأسل
وأما الواقدي فزعم أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة اثنتين من الهجرة. قال: خرج رسول الله ص في مائتي رجل من أصحابه من المهاجرين والأنصار. ثم ذكر من قصة أبي سفيان نحوًا مما ذكره ابن إسحاق، غير أنه قال: فمر - يعنى أبا سفيان - بالعريض، برجل معه أجير له يقال له معبد بن عمرو، فقتلهما وحرق أبياتًا هناك وتبنًا، ورأى أن يمينه قد حلت، وجاء الصريخ إلى النبي ص، فاستنفر الناس، فخرجوا في أثره فأعجزهم. قال: وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب الدقيق ويتخففون، وكان ذلك عامة زادهم؛ فلذلك سميت غزوة السويق.
وقال الواقدي: واستخلف رسول الله ص على المدينة أبا لبابة ابن عبد المنذر.
قال أبو جعفر: ومات في هذه السنة - أعني سنة اثنتين من الهجرة - في ذي الحجة عثمان بن مظعون، فدفنه رسول الله ص بالبقيع وجعل عند رأسه حجرًا علامة لقبره.
وقيل: إن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ولد في هذه السنة.
قال أبو جعفر: وأما الواقدي، فإنه زعم أن ابن أبي سبرة حدثه عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر، أن علي بن أبي طالب عليه السلام بنى بفاطمة عليها السلام في ذي الحجة، على رأس اثنين وعشرين شهرًا.
قال أبو جعفر: فإن كانت هذه الرواية صحيحة فالقول الأول باطل.
وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله ص المعاقل فكان معلقًا بسيفه.
ثم دخلت السنة الثالثة من الهجرة
غزوة ذي أمر
فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله ص من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، أو قريبًا منه، ثم غزا نجدا يريد غطفان؛ وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفرًا كله أو قريبًا من ذلك. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا، فلبث بها شهر ربيع الأول كله إلا قليلًا منه.
ثم غزا يريد قريشًا وبني سليم، حتى بلغ بحران معدنًا بالحجاز من ناحية الفرع فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدًا.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)