الحلقة الأولى
الالتفات (1)
عرف جمهور البلاغيين الالتفات بقولهم : إنه التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة ( التكلم والخطاب والغيبة ) بعد التعبير عنه بطريق آخر منها. ويتضمن الالتفات صورا ستا عندهم :
1ـ الالتفات من التكلم إلى الخطاب : ومنه قوله تعالى على لسان مؤمن
أهل أنطاكية : (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وْمًا لَيْ
لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
) يس.2ـ22
قال : (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ونلاحظ أنه جاء بكلامه على طريق التكلم
ثم انتقل إلى طريق الخطاب فقال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وكان
السياق يقتضي أن يقول وإليه أرجع ولكنه التفت إلى الخطاب لكي
يحذرهم وينبههم إلى أنهم : راجعون إلى الله وصائرون إليه وهذا المعنى
لا يتأتى إذا قال : وإليه أرجع ، فلقد واجههم بمرجعهم إلى من يكفرون
به وكأنه يقول لهم : كيف لا تخافون من آل أمركم إليه .
2- الالتفات من التكلم إلى الغيبة : ومنه قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
) الكوثر (1-2) فلقد جاء بالكلام على طريقة التكلم ثم التفت
إلى طريقة الغيبة في قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) ومقتضى السياق أن
يقول : فصل لنا ولكنه التفت لحث النبي على الصلاة لأنها لربه الذي
أحسن تربيته ورعاه . ومثله قوله تعالى : (حْمَ * وَالْكِتَابِ الْمُبِينُ إِنَّا
أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمُ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
) الدخان ( 1-6 )
انظر وتأمل في الآيات الكريمة السابقة لقد جرى الأسلوب على طريقة
التكلم (إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ) (إِنَّا كُنَّا...) (...مِنْ عِنْدِنَا) ثم انتقل إلى طريق الغيبة
فقال : (رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وكان مقتضى السياق أن يقول فيها : رحمة منا
ولكن هذا الالتفات هيأ مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم
وهو المرسل بالكتاب ولو قال: رحمة منا لما كان هناك سبيل إلى ذكره
صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرحمة يناسبها ذكر الرب إشارة إلى
معنى التربية والرفق ...
الحلقة الثانية

الالتفات ( 2 )
الصورة الثالثة : الالتفات من الخطاب إلى الغيبة
قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهًا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يونس (22) تأمل قال (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ) على طريقة الخطاب ، ثم التفت فقال : ( وَجَرَيْنَ بِهِمْ) نقل الأسلوب إلى الغيبة ، ولاحظ من المخاطبون هنا ؟ إنهم الذين إذا نجاهم الله تعالى من هول البحر وأمواجه بغوا في الأرض وأفسدوا ونقل الحديث إلى الغيبة يشعر بالتشهير بهم وكأنه أراد أن يروي قصتهم لكي يكونوا عبرة لغيرهم ، ثم أين كانوا وقت الخطاب ؟ كانوا كائنين في الفلك (كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) نعم كانوا في مقام الشهود والحضور فلما جرت بهم الريح ذهبوا بعيدا عن مقام الخطاب فناسب هذه الحال طريق الغيبة .
ومنه قوله تعالى : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) الأنبياء (91-92).
لقد جرى الخطاب على طريق الخطاب (أمتكم . ربكم . فاعبدون) ثم انتقل إلى أسلوب الغيبة في قوله تعالى : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) والأمة المقصودة هنا هي الأمة المسلمة ، وفي سر هذا الالتفات يقول العلامة الزمخشري : كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم ويقول لهم : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله ، ونلمح أيضا من هذا الالتفات سرا آخر وهو : انصراف الله تعالى عن هذه الأمة عندما يتقطع أمرها بينها ..
الحلقة الثالثة من علم المعاني ( تطبيقات قرآنية )


الالتفات ( 3 )


الصورة الرابعة : الالتفات من الغيبة إلى الخطاب :
قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *) الفاتحة (2-5) تأمل لقد جرى الأسلوب على طريقة الغيبة أولا ثم انتقل إلى الخطاب ثانيا في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )ولقد أسهب العلماء في سر جمال ذلك الالتفات بقولهم : (إن المعاني السابقة من حمد الله ، والثناء عليه ، وذكر الربوبية والرحمة ، والملك ليوم الدين ، كل هذه المعاني تحث النفوس على الإقبال صوب الحق متجهة إليه بالخطاب معلنة وحدانيته بالعبادة والاستعانة ) ومن هنا يشير الالتفات إلى تصاعد الإحساس بالعظمة والجلال حتى تعلن النفس غاية العبودية والاستسلام .
ومنه قوله تعالى : (وَقَالُو اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدّا ) مريم(88-98) ومعنى(الإد) كما قيل : العجب ، أو هو العظيم المنكر .
جرى الأسلوب على طريق الغيبة فقال تعالى : (وقالوا ) ثم انتقل إلى طريقة الخطاب في قوله : (لقد جئتم ...) والالتفات هنا فائدته التنبيه على أن إنكار هذه الفرية أمر بالغ الأهمية يفتقر إلى أن تتهيأ القلوب والعقول لتسمع من الله تبارك وتعالى إبطاله ورده ، وأيضا فيه مالا يخفى من مواجهتهم بافترائهم على الله الكذب ورميهم به في وجوههم . يتبع إن شاء الله تعالى

الحلقة الرابعة من علم المعاني ( تطبيقات قرآنية
)

الالتفات (4)
الصورة الخامسة ( الانتقال من الغيبة إلى التكلم
قال تعالى : {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }فاطر9 جرى الكلام على طريق الغيبة ( والله الذي أرسل الرياح ) ثم انتقل إلى طريق التكلم ( فسقناه ) وكان مقتضى السياق أن يقول : فساقه ولكنه انتقل إلى طريق التكلم ليحدث إيقاظا ولفتا عند هذا المقطع المهم من مقاطع المعنى ، لماذا ؟ لأن سوق السحاب إلى الأرض الميتة فتحيا ضرب من قسمة الأرزاق ، ومن الذي يقسم الأرزاق ؟ ............... فناسب أن ينقل الإسناد إلى ضمير ذي الجلالة - سبحانه - مقسم الأرزاق ثم لماذا لم يسند إلى الرياح كما في قوله تعالى : (فتثير سحابا) ؟ لأن إثارة السحاب ليست في خطورة سوقها صوب ما يشاء الله من خلقه ومن هنا نلمح ونلحظ أن الالتفات يشير إلى أن الله جل وعلا يسوق السحاب بقدرته ويقسمه بنفسه رحمة ورزقا ولا يدع ذلك لأحد من عباده ، وقد جاء ذلك واضحا جليا في قوله تعالى (حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) من الآية 57 الأعراف
ومنه قوله تعالى : ( فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ) فصلت 12 جاء الكلام على طري ق الغيبة في قصة خلق السماوات والأرض ( فقضاهن سبع سماوات ) ثم انتقل إلى طريق التكلم في قوله تعالى ( وزينا السماء الدنيا ) وسر جمال هذا الالتفات أن السماء الدنيا وما فيها من كواكب لهي آية من أظهر الآيات وأوضحها لأنها تدل على قدرة الله تعالى والتي كثيرا ما يحث القرآن الكريم على النظر إليها والاعتبار بها ،.
الصورة الأخيرة من صور الالتفات : ( من الخطاب إلى التكلم )ومنها قول الشاعر :
طحا بك قلب في الحسان طروب : بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلفني ليلى وقد شط وليــــــها : وعادت عواد بيننا وخطـــــــوب

ومعنى طحابك قلب أتلفك وذهب بك ، وشط بمعنى بعد والولي القرب تأمل البيتين تجد الكلام جرى على طريق الخطاب في قوله : طحا بك قلب ثم انتقل إلى طريق التكلم في قوله يكلفني وسر هذا الالتفات أن التكليف بليلى - مع حاله التي وصف - لهو مقطع مهم من مقاطع المعنى يقع على النفس وقوعا مباشرا فيقوى به الكلام . .انتهى ..